و أبصر الأعمى
فتحت باب الدار لأجد أمامي شاباً وسيما يرتدي لباساً مزج بين المدينة و
الريف ، لقد باح حذاؤه الملطخ بطين القرية المعطاء
بأسرار سبقت الضيف إليّ ، أما الشعر الأسود المغسول بمطر الشتاء فقد كان يقطر
ماءً يعانق دموعاً على وجنتين احمرتا ببرد كانون القارس ، اقتربت منه لأصافحه ، و
كانت أشعة الشمس خجلى بين الغيوم الداكنة ، و قرأت
في وجهه فرحة اللقاء ، و بين السطور كان الحزن يرسم لوحة لقلب جريح ، قال :
السلام عليكم يا دكتور عبدالله ، أسعد الله صباحك ،
أنا سعيد بن علي الحسين ، أجبته : أهلاً يا عمو سعيد
، لقد أصبحت رجلاً _ ما شاء الله _ ، كيف حال أبيك و أهلك ؟، تفضل ادخل يا
عزيزي ، قال :الحمد لله يا دكتور ، لقد أرسلني والدي
بهذه الرسالة إليك ، و أخرج من جيبه كيساً من النايلون الأسود و قد أحكم ربطه على
رسالة خشية أن يصيبها البلل ، طلبت منه أن يدنو من المدفأة التي كانت تقذف بحمم
من اللهب الزرقاء والصفراء و الحمراء ، أخذت الكيس و فتحته ، لقد كان أبوه أحد
المعروفين بالتقوى في قرية تل الينابيع ، و كما يقال كلمتهم
مسموعة ، أخرجت الرسالة المطوية ، و ماهي إلا
هنيهات حتى سار دمع جليدي على خديّ ، و سَرَت بعده برودة قطبية في عروقي ، و نبست
شفتاي بعبارة : يرحمك الله يا أبا عدنان و يتغمدك
بواسع رحمته ، لم تكن الرسالة إلا وصية أبي عدنان
بأن توضع كل أمواله و أملاكه تحت تصرفي من أجل الأبحاث الخاصة بالعميان .
لقد كان أبو عدنان ( محمد
الدويس ) صديق الطفولة التي عشناها أياماً لن
يقوى الزمن على سلخها من الذاكرة ، لقد ترك محمد
المدرسة و هو في الصف الرابع الإبتدائي ، و صار
يساعد والده في عمله التجاري ، و عندما أصبحت أنا في المدرسة الثانوية في القرية
المجاورة لم أعد أرى صديقي إلا قليلاً ، أما في سنوات الجامعة فقد كانت تمر
الأشهر الطويلة دون أن ألتقي بمحمد .
لقد درست الطب ، و ربما كان لجدي محي الدين _
يرحمه الله _ تأثير كبير في دخولي كلية الطب ، و من ثم تخصصي في طب العيون ، لقد
كان مصاباً بالداء السكري ، و كنت أسمع منه كلاماً كثيراً حول ذلك المرض جعلني
أكرهه قبل أن أعرف ماهيته ، لقد أثر السكري على عيني جدي ، و لا زلت أذكر تلك
النظارات الخضراء السميكة التي كانت تشغل حيزاً كبيراً من وجهه القمري ذي اللحية
الكثة البيضاء .
لقد كان صديقي أبو عدنان يكره المعاقين أو "
المشوهين " كما يسميهم ، و من ضمنهم العميان ، لقد
كنا نسمع منه كلمات السخرية و الإستهزاء بهم بشكل
متكرر ، و لطالما حذرناه أنا و غيري من ذلك ، كنت أقول له : اتقِ الله يا أبا
عدنان ، لقد خلق الإنسان في كَبَد ، إن أي إنسان
معرض في أي لحظة ليتحول إلى معوق مثل هؤلاء يا أخي محمد ، و لكن صوت "
أرغيلة " أبي عدنان كان
يصل لأذنيه دون كلامي ، و منظر الدخان المتصاعد منها كان يسر ناظريه أكثر من
نصائحي .
لقد عرض علي الأموال مراراً كي أترك الجامعة و الطب و أعمل
معه ، و كان يقول عبارته الشهيرة أنت المخ و أنا المال ! ، ما رأيك يا
عبدالله
؟، كنت ابتسم له و أقول : الله يهديك يا أخي محمد ، فيتابع و يقول : على
الأقل ادرس شيئاً تستفيد منه و تفيد ، مالك و للعيون ؟!.
لقد كانت وفاة ابنه عدنان _ يرحمه الله _ و هو في
السادسة من عمره إثر إصابته بالتهاب في الدماغ نقطة تحوّل حقيقية
في حياته ، لقد اقترب من حياة الناس و همومهم ، و صار يفهم معنى المرض و
الوفاة و ربما الإعاقة ، لقد بدأ ميزان المال يخبو في عقله ليحل مكانه ميزان آخر
، و ما هي إلا سنوات حتى أتاه امتحان قاصم آخر ، فلقد توفيت أم
عدنان _ يرحمها الله _ التي كثيراً ما كانت تبكي
عندما تراه يسيء بلسانه لعباد الله المعوقين .
منذ عشر سنوات زرت قرية تل الينابيع ، و كالعادة
جاء أبو عدنان ليسلّم علي ، و بعد أن ذهب الجميع ، و
بقي معي صديق الطفولة لوحده ، و كانت عقارب الساعة تدنو من الثانية و النصف
صباحاً ، قال لي أبو عدنان : أريد أن أكلِّمك يا
دكتور بموضوع ، و لكنني خجل حقاً ، قلت له باسماً : قل يا رجل، هات ما عندك ، هل
تخجل مني ؟ ، لا ..لا يحق لك ذلك
أبداً .
مدَّ يده المرتعشة إلى جيبه ليخرج نظارات بإطار أخضر غامق أدارت سنين ذاكرتي إلى
وجه جدي البشوش ، و ظننت أنه سيعطيني إياها ، و لكنه
فاجأني بوضع العدسات على وجهه الذي بدأ الزمان يطغى على تورده ، و هنا لم أتمالك
نفسي فضحكت ، و قلت له : خيراً - إن شاء الله - يا أبا
عدنان ، ماذا حدث ؟ ، قال لي : أرأيت ؟ ،
ألا يحق لي أن أخجل من نفسي قبل أن أخجل منك ؟ ، يا
رب سامحني ، كم سخرت من أولئك المساكين ؟، لقد شعرت
بضعف في بصري منذ مدة، و لأنني خجلت من هذا الأمر لم أذهب إليك في
العيادة ، و كنت أحتفظ بنظارة المرحوم في الصندوق ، و
عندما جربتها وجدت أن الأمور أفضل ، و صرت أخذها معي حيثما ذهبت ، و عندما يلزم
الأمر أضعها دون أن يلحظني أحد ، و لكن نظري كان يزداد ضعفاً بمرور الأيام يا
دكتور ، و الله مصيبة يا أبا همام .
قلت له : أنا عاتب عليك يا أبا
عدنان ، هل تخجل من أخيك في قضية كهذه ؟، و ردّ علي بسرعة يعتصرها الحزن و
الألم : أشعر بالخجل من كل الناس ، ماذا
سيقولون عني إن شاهدوني أضع النظارات ؟ ، أجبته بثقة :
لن يقولوا شيئاً ، لأنك الآن إنسان آخر بنظرهم ، و تابعت مازحاً : لقد نسي الناس
أبا عدنان الهمزة اللمزة ، أنت الآن … ، و قاطعني و
هو يهز رأسه : لا …لا … أنا … ، قاطعته بالمثل مشجعاً إياه ، و استمر منوال
الحديث ينسج ليلتنا الصيفية تلك و التي كاد القمر أن يكون فيها بدراً ، لقد تحدثت
معه و ربما لأول مرة و بإسهاب عن أمراض العيون ، و خرجنا من المنزل سوية لصلاة
الفجر و النظارات العتيقة مبتهجة بتربعها على مقدمة وجهه .
في يوم السبت جاء أبو عدنان إلى
عيادتي ، و فحصت عينيه ، و عرفت أن إصابته ستودي ببصره في يوم ما ، و صفت
له نظارة مناسبة ، و شعرت أنه قد عرف بعضاً من خبايا الأيام .
لقد كان تلميذُ الحياة _ و منذ مدة _ سنداً قوياً لي في
أبحاثي ، لقد أغدق عليّ المال ، و أحيانا كان يجلس معي في المختبر بصمت و
سكينة يرقب عملي ، و يحاول خدمتي بأي شكل كي لا أضيّع أي ثانية من الوقت .
لقد فقد صديق العمر بصره حقاً بعد سنوات قليلة ، و
لكنه كان يحمد الله على الدوام ، لقد كان كثير التردد على مختبري برفقة سعيد ابن
جاره الذي تعهد أبو عدنان تدريسه على نفقته الخاصة .
لقد عملت في مختبري مع فريق صغير ، و كان يوماً رائعا
عندما استطعنا ربط عملنا بمركز البحوث العلمية الذي زودنا بألياف خاصة يمكن
توصيلها إلى الدماغ ، فقد أنجزنا عدسات بصرية اصطناعية ، و الآن أضحى بإمكاننا
تطبيق ذلك عمليا ، لقد كان أبو عدنان أول المتبرعين
للخضوع للتجربة التي ارتقبها الكثيرون ، لقد كان يثق بي بشكل يدفعني للعمل أكثر ،
و في اليوم المحدد دخل غرفة العمليات و هو يتمتم بالدعاء ، و بعد أكثر من ثلاث
ساعات خرج منها ، و عندما أفاق من تأثير المخدر ، و تحركت جفونه على عينين
اصطناعيتين ، صاح بأعلى صوته : لا إله إلا الله ، و أجهش بالبكاء .
Blogger Comment
Facebook Comment