شهـادة قمـــر
كان طفلاً
مدللاً ، فهو الصبي الأول بعد خمسة
بنات ، ورغم أنه ليس الأخير ، لكنه كان محطَّ أنظار العائلة كلها
، يرونه و كأنهم لا يصدِّقون أنفسهم ، الهدايا كانت لصويلح ، و
الإبتسامات له ، أما الأحضان فمفتوحة لـ " صلوحي " و شبه موصدة
بوجه الـ " بذور " ، و المشاوير إلى نبع الماء أسفل التلة
الخضراء صباح مساء له دون سواه ، و إن اقتلع الأزهار الغالية على
قلب أم صويلح فهذا حقه ، و جريمة أن ينهره أحد على فعاله ، و حتى
أدوات المنزل الكهربائية صارت لعباً لصغير سكب فيه الآخرون
ضياعهم .
منذ
سنتين جاءني أبو صويلح ملهوفاً مسرعاً بثياب نومه التي بالكاد
تستر كرشه حاملاً فلذة كبده المحروق ،
عرفت أن عليّ أن أغلق باب بقاليتي الصغيرة و أن أدير مفتاح
سيارتي التي دخلت متاحف الحياة و هي حية تعطِّر الأثير بدخانها و
أُسرعَ باتجاه المشفى في المدينة المجاورة ، ركب بجواري و هو
يصيح و يبكي كأنه بضعة نسوة اجتمعن في يوم النحيب ، كان يلكزني
كي أطير ، و كنت أرفع جسدي قليلاً عن مقعد السيارة و كأنني أحاول
جرَّها ، لقد جعلني اضطرب رغم تكدُّس أعصابي في ثلاجة من شتاء "
كَوَانين " ، كنت أدعو الله ألا تتعطل السيارة في يوم غبار
الجنوب ، سأكون في وضع لا أحسد عليه إن تعطلتِ أيتها الـ "
طَرْطورة " ، كانت أبواب السيارة المهترئة تعارك الهيكل المكسور
، و تداعب كتف الأب المفجوع راجية ألا يلطمها ، كنت أحاول أن
أشغل نفسي عن شتائم صاحبي بصوت الرياح المتسللة عبر شقوق الواجهة
، لقد صار هدير المحرك و " قرقعة " الحديد لحناً عذباً أمام
جعجعة "الحنون" .
رزمت
أعصابي و حزمتها و قلت : كأني سمعت
أن الطبيب قال لك أن ضغطك مرتفع قليلاً و أن عليك … ، لجمني
بخبطة من قدمه قصمت أرض السيارة و جعلتها حيواناً زاحفاً على
إسفلت متموج مشرذم ، لا عليك يا أبا صويلح هاهي المشفى ،
وَلَجْنا ، ركض و قد بقي في قدميه حذاء واحد رماه ككرة لم تخطئ
هدفها من قرب أذن حارس البوابة ، صرخ على الطبيــــب و " دفش "
الممرضات و اخترق طوابير المرضى ، و ارتمى متكوماً على كرسي أسود
ذي عجلات قرب طاولة الفحص ، و نادى على الـ " حكيم " كي يباشر
مهامه ، قال له الطبيب الشاب: ضع طفلك على السرير يا أخ ، فأجابه
بسرعة البرق : تعال افحص الطفل هنا ، الحالة إسعاف ، كانت تلك
اللحظة الأولى التي التقت فيها عيناي بعيــــــــني الـ " أزعر "
، رأيت بعض السكون و الهدوء غير المعتاد عليه ، لكنه ما إن تأكد
من ابتسامتي المختبئة حتى ارتسمت ابتسامة ذكية على ملامح وجهه
البريء ، فرحت جوانحي و عرفت أن الأمر غيمة صيفية ، ووسط إعادتي
لترتيب أفكاري في زحمة فاقت تكدُّس غرفة الإسعاف استأذن مسامعي
صوت الطبيب و هو يطمئن أبا صويلح ، و أردف ذلك الصوت معقباً : و
لكن يا أخ ليس كل مرة تسلم الجرَّة ، انتبه لأطفالك ، " دير بالك
" ، أليس أنت الذي أتيت بهذا الطفل منذ شهر و قد شرب علبة دواء
جده و نام في العناية ؟ ، نعم أنت ،
و هذا الأخ الذي يضــع النظارات – و أشار بيده إلي - كان معك
أيضاً .
أنا
بطبعي لا أحب الشركاء ، و لكنني صرت
شريكاً لوالدك يا صويلح ، بسيطة - هكذا كنت أبربر بيني و بين
نفسي - ، لم يهضم أبو صويلح كلام الحكيم و وقف على طوله و سرَّح
شاربه المعقوف بيسراه ، و قال : يا سيد هل تريد أن تعلمــنا
التربية ؟ ،أنا أربّي جدك !! ، و حمل
ابنه و ركب سيارة لا يغلق بابها و قال
: " شغِّل هالمحروسة " ، أردت الذهاب بطريق العودة لكنه سبقني
إلى مقود السيارة ليوجهها إلى الشارع الموصل للسوق ، و سترنا
الله من حادث كاد أن يختمها ، و ماذا تريد الآن من السوق ؟ ،
أجابني بثقة : الطفل مريض ، لحم مشوي
و موز و حلويـــــــــات و " بوظة " ، و صاح " الشقي ": و ثياب
جديدة و علبة سجائر ، " تكْرَم يا صويلح".
اشترى "
للمريض " حتى علبة السجائر الحمراء ،
و في البلدة تلقتنا أم صويلح بالزغاريد ، و اجتمع الناس ، و سمعت
أزيز الرصاص ، و سرنا في موكب النصر إلى صدر المضافة الكبيرة ، و
جاء طفل صغير ليهمس في أذني أن زوجتي تريدني ، ذهبت إليها
فأخبرتني بأن هدى أخت صويلح تتألم من بطنها و أن أختها الكبرى
تريدنا أن نأخذها إلى الطبيب ، و هم لا يستطيعون التفوه بذلك
أمام أبي صويلح المنشغل بتلقي التهاني ، أخذنا المسكينة التي
كانت تتلوى من ألمها ، و تبين أن لديها التهاباً في الزائدة
الدودية ، و أجريت العملية بصمت ، و في أواخر الليل لمحت " جار
الرضا " يحمل ابنه على كتفيه باحثاً عن ابنته ، زارها - و
للأمانة قبَّلها - ، و قال لأختها سعاد : غداً سنأتي أنا و أمك
لنخرج هدى من المشفى .
لقد
كانت الشمس على وشك الغروب عندما فتحت مصراعيّ باب بقاليتي هذا
اليوم ، و أخرجت الكراسي التي لا تمل
الأنين ، أشعلت الغاز الصغير و وضعت عليه إبريق الشاي ، و جاء
بعض الرجال كالعادة إلى المجـــلس المختار ، و كان الأطفال هناك
يلعبون في الحارة ، و بين الفينة و الأخرى يأتي أحدهم ليشتري
زراً أو إبرة و قطعة حلوى ، لقد كنت أسجل في دفتر الديون فاتورة
صغيرة عندما رصدت نظارتي يد أبي أحمد أحد وجهاء البلدة تمتد
لتخرج علبة كبريت رُسم عليها فرس أسود ، و لم يبق بها إلا بضعة
عيدان ، و أخذ منها عود ثقاب أخضر الرأس ، و قد سالت منه أثناء
صناعته قطعة خضراء صغيرة تجمّدت كالدمعة على جانبه ، أراد أبو
أحمد إشعـــال سيجارته ، ركض صويلح نحوه و خطف العلبة المهروسة
من يد الشيــخ السمراء ، و قال له : لا و الله يا أبا أحمد ، أنت
كبيرنا ، أنا من سيشعلها لك ، هات العود ، و أعطاه عود الثقاب
بيد مرتجفة مع نشوة اختالت على شفتيه ببسمة لم تكتمل ، و حلَّق
الشاربان في أفق مجد عريض للمرة الأخيرة ، و صرخ عود الثقاب و
النيران تلتهب برأسه و تقترب من شاربي الوقور ، و تفوح رائحة
شواء تضحك لها وجوه العجائز ، و يهرول صويلح و بيده حلم من نار ،
يركض نحو بيادر تبكي سنابلها الذهبية في يوم الوداع الأخير ، و
في الليل كان هناك ضوء القمر شاهداً على نيران أحالت ليل البلدة
نهاراً
Blogger Comment
Facebook Comment