تغالوغ ... ! (1)
رأيت يد الباب تتحرك نحو الأسفل ، علمت أن المريض قادم، تابعت حركتها، ثم رفعت بصري قليلا حيث أن الباب بدأ ينفتح، فتحه الرجل نصف فتحة، و دخل، كان سمينا كما هم معظم رجال و ربما نساء هذه الأيام، و لكن من لباسه عرفت أنه الأب و ليس السائق و لا الخادم، و منيت النفس بأنني سأحصل منه على قصة مفصلة حول طفله المريض، ألقى السلام على ما أذكر ، ورددت عليه ربما ، وكانت عيناي تدوران في حجريهما خلف العدسات تحاولان تأمل الصبي الذي يجري خلف أبيه ، لمحته ، وابتسمت له فرد البسمة ويده كانت بيد الخادمة ، ومع بسمته أدار رأسه نحو اليسار ورفعه نحو الأعلى ببسمة ساحرة تتلألأ على شفتيه ، وكأنه كان يقول للخادمة الفليبينية انظري حتى هذا هو صديق لي ، وزع فرحه بيني وبين خادمته ، كان الأب قد جلس على الكرسي الأخضر الكبير الذي أمام مكتبي ، وصار يعبث بالمفكرة ، وبعلبة الأقلام ، أخذ بطاقة لي دونت عليها هواتف و ألقاب منسية ، و لغاية في نفس يعقوب وضعها في جيبه ، ثم أخذ أخرى ، ثم أخرج بطاقة من جيبه كانت شفافة وغريبة علي ، حيث يبدو أنه رجل عليه قيمة كما يقال ، ووضعها على مكتبي وحاول تقريبها مني لتلامس يدي ، وأردفها بأخرى ملونة أخرج قلمه الأنيق ليدون عليها رقم جواله، ووضعها فوق سابقتها ، حاولت أن أسأل عن سر قدوم الطفل ، عن قصته ، وعن مرضه ، عن سعاله ، وعن حرارته ، وفهمت من الإيماءات والحركات أن علي أن أتفاهم مع الخادمة ، فهو لا يعرف عن ذلك كثيراً ، ولكن كون الأم في فرح "الجيران" في الحي بعد "الآخر" فقد اضطر للقدوم مع الصغير 0 فكرت في نفسي هل أطلب من ممرضتي أن تتفاهم مع خادمة مريضي فوجدت أنني كمن يمسك الأذن اليمنى باليد اليسرى ، فقلت في نفسي الطريق الأقصر أن أتفاهم أنا مع هذه البراءة ، هذا الطفل الرائع الذي لم يبخل علي ببسماته ، وصعد إلى سرير الفحص من دون حتى أن أطلب منه ، واستعد للفحص وكأنه يفهم ما أريد ، قلت له : "كيف حالك حبيبي ؟" ، اختفت بسمته ، ضاعت في سراديب مجهولة ، وتبعتها بسمتي رغم محاولتي الإحتفاظ بها ، ظننت أنني جرحته ، فقلت له :" ما شاء الله أنت رائع ، ما اسمك يا صغيري ؟" ، وهنا شعرت أن لونه قد تغير من كلامي ، نظر لخادمته ، فنظرت هي الأخرى إلي، ثم نظرت إلى ممرضتي ، تكلمت بضع كلمات بلغتها ، فردت عليها ممرضتي ، ثم نطقت اسمه : " فيصل" ، وبدأت تحكي لممرضتي الفلبينية بالتغالوغ وممرضتي تترجم لي بالإنكليزية ، ومن ثم تكلم الطفل بالتغالوغ ، وكان لطلاقته الأعجمية وقع الصاعقة على رأسي، ودار الحديث بين أطراف عدة ، وكنت أدور بينهم كالأبله أو المجنون ، كان لابد لي أن أسمح لدماغي بالخروج من أقرب فوهة يصلها هذه المرة كي لا تكتمل "زفة الأطرش" 0
عرفت أن الطفل لا يعرف العربية إلا شذرات، فحصته ، كتبت الوصفة ، دعوت له بالشفاء ولكنني شعرت بالأسى عندما تأكدت أنه يفقه لغة خادمته الأعجمية أكثر من كلام أمه التي حملته في بطنها و ربما رضع من ثديها ، تلك الخادمة التي أصبحت واسطتنا في التخاطب معه والطلب إليه أن يفتح فمه أو يستلقي على السرير أو يجلس ، كتبت له العلاج الذي دعوت الله أن يشفيه من مرض ألم به يومها ، ولكن شعرت أن الدواء ليس بالذي كتبت ، وأن هناك وصفة أخرى يجب أن تسطر ، مسكت قلمي عله يفرج عني ، وفكرت ، تذكرت المثل العربي " العلم في الصغر كالنقش في الحجر " ، قلت في نفسي إن هذا الذي تربى والخادمة تملأ عليه المكان لابد وأن يأخذ من ثقافتها وتربيتها ونظرتها ، صحيح أنها قد تكون وضيعة الثقافة بمنظار الشهادات والدرجات ، ولكن لها خلفيتها الإجتماعية وعاداتها وتقاليدها ولغتها وموروثاتها التي أخذتها عن بيئتها التي غالباً ماتكون مغايرة لبيئتنا ، وهذه مهما حرصنا لابد وأن تصل لأطفالنا بشكل أو بآخر ، بالشعور أو باللاشعور ، وربما يكون فيها الشيء المدمر الذي لا نريده ، فكرت هل يحق لأحدنا أن يسلم الخادمة زمام أمانة يجب ألا تحملها غير أعناقنا ، إنها أمانة الأطفال جيل الغد والمستقبل هؤلاء الذين يجب أن نبذل الغالي والرخيص من أجلهم .
صحوت من غفوتي واتجهت بحديثي للأب معطياً إياه تعليمات الدواء ، كنت أحدثه بالعربية ويحدثني بالإنكليزية ، صرت باللاشعور أحدثه بالإنكليزية ، وأكملت الحديث ، والوصفة لم تكتمل ، ونزلت الدموع من عيني تبلل كومة الأوراق ، ورفعت رأسي ، وقلت له :" ألا تتكلم العربية يا أخي ؟"، فقال :" Sure sir I am Arabian " ، رفعت رأسي ، وانفتح فمي كالأبله ثانية ، وسقط القلم من يدي ، وخرجوا تسبقهم براءة الطفل يودعني بلغة يديه التي لم يحرموه إياها ، نظرت ليد الباب تتحرك للأعلى ببطء ، وصحوت على كابوس كان حقيقة... و الكرسي الأسود لا يزال... .
(1) التغالوغ : لغة أهل الفلبين.
Blogger Comment
Facebook Comment